أرض الصومال- الاستقلال، الأهمية الإستراتيجية، والاعتراف الأمريكي المحتمل

تقبع أرض الصومال في الرقعة الشمالية من جمهورية الصومال، متمتعة بموقع استراتيجي بالغ الأهمية، حيث تطل على خليج عدن وباب المندب، هذان المضيقان اللذان يمثلان شريانًا حيويًا للتجارة العالمية. ومع تصاعد الأهمية الاستراتيجية لهذه البقعة الجغرافية، التي باتت مسرحًا للتنافس الدولي المحتدم حول قضايا الأمن والطاقة وحركة التجارة العالمية، خصوصًا في ظل تنامي خطر الحوثيين في خليج عدن، تزايد الاهتمام بهذا الإقليم الطامح إلى الاستقلال عن الصومال، على الرغم من أنه لم يحظ بالاعتراف الرسمي من أي دولة حتى اللحظة.
يهدف هذا المقال إلى استعراض مسيرة التطور السياسي لأرض الصومال، وتسليط الضوء على الدوافع التي قادت الإقليم إلى اتخاذ قرار الانفصال عن الوطن الأم، الصومال، مع التركيز على أهميته الاستراتيجية المتزايدة، وشرح الأسباب التي تدفع إدارة الرئيس الأميركي الحالي إلى التفكير في الاعتراف به كدولة مستقلة.
نهاية حلم الصومال الكبير
في غابر الأزمان، عمدت القوى الاستعمارية الغربية إلى تقسيم الصومال إلى أجزاء متفرقة، تم توزيعها إثر مؤتمر برلين المشؤوم بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا. استحوذت إيطاليا على الصومال الجنوبي، وجعلت مقديشو عاصمة لها، بينما سيطرت بريطانيا على الصومال الشمالي، واتخذت من هرجيسا عاصمة لها. أما فرنسا، فقد استعمرت شريط جيبوتي الساحلي.
علاوة على ذلك، بسطت إثيوبيا نفوذها في مرحلة لاحقة على منطقة الأوغادين الغنية بالموارد، بينما توغلت كينيا شمالًا في الأقاليم الصومالية. وهكذا، مزق الاستعمار أوصال الشعب الصومالي إلى خمسة كيانات متباينة، تخدم في مجملها مصالح القوى الاستعمارية الغاشمة.
جراء هذا التقسيم القسري، تبلورت فكرة قومية راسخة، تمثلت في ضرورة توحيد أبناء الشعب الصومالي في دولة واحدة موحدة، تمتد على طول الشريط الساحلي للبحر الأحمر وصولًا إلى خليج عدن. تجسدت فكرة "الصومال الكبير" خلال فترة مقاومة الوطنيين الصوماليين للقوى الاستعمارية الغربية، وسرعان ما أصبحت فكرة محورية وملهمة لحركات النضال والتحرر للشعوب الصومالية، واتفقت القوى الوطنية على وجوب إنهاء الاستعمار، وإعادة الاندماج لتكوين "الصومال الكبير" الموحد.
مع انتهاء حقبة الاستعمار في عام 1960، نال الصومال الشمالي استقلاله كدولة مستقلة، وعاصمتها مدينة هرجيسا، وحظي هذا الاستقلال باعتراف عدد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وفي العام نفسه، حصل الصومال الجنوبي على استقلاله من إيطاليا، تحت اسم جمهورية الصومال، وعاصمتها مقديشو. ونظرًا لترسخ فكرة "الصومال الكبير" في أذهان القادة والشعب، اتفق زعماء الصومال الجنوبي والشمالي على الوحدة لتكوين دولة واحدة موحدة، تحمل اسم جمهورية الصومال، وعاصمتها مقديشو، على أن تنضم إليها لاحقًا جيبوتي بعد استقلالها من الاستعمار الفرنسي. وتأكيدًا لأهمية فكرة "الصومال الكبير"، وُضعت خمس نجمات في علم الدولة الرسمي، في إشارة رمزية إلى أقاليم الصومال الخمسة التي مزقها الاستعمار.
إلا أن حلم الوحدة وإقامة "الصومال الكبير" سرعان ما بدأ في التلاشي والانحسار، بعد استقلال جيبوتي ورفضها الانضمام إلى الصومال، وفشل الحكومة الصومالية في ضم المناطق الصومالية في إثيوبيا وشمال كينيا. ومما زاد الطين بلة، أن السياسات الداخلية الدموية التي انتهجها الرئيس سياد بري أدت إلى اضطراب الأوضاع الداخلية، ودخول البلاد في حالة من الفوضى الشاملة، انتهت باندلاع حرب أهلية طاحنة أطاحت بحكومة سياد بري، واستمرت لأكثر من عقدين من الزمن، انهارت خلالها مؤسسات الدولة بشكل كامل.
وعلى الرغم من اتساع رقعة الحرب الأهلية الصومالية، تمكن قادة أرض الصومال بفضل حنكتهم وحكمتهم من بسط الأمن والاستقرار في الإقليم الشمالي، وتشكيل حكومة محلية برئاسة محمد إبراهيم عقال، تولت زمام الأمور وإدارة شؤون البلاد، وحققت قدرًا لا يستهان به من التنمية والازدهار. ونظرًا لطول أمد الحرب الأهلية، وانهيار فكرة "الصومال الكبير" بشكل كامل، قرر قادة أرض الصومال العودة إلى مرحلة ما قبل الوحدة، وإعلان الاستقلال عن جمهورية الصومال، وإعلان جمهورية أرض الصومال (صومالي لاند) دولة مستقلة ذات سيادة في عام 1991. وعلى الرغم من أن هذه الدولة الوليدة استطاعت الحفاظ على الأمن والاستقرار لمواطنيها في منطقة تعج بالاضطرابات والصراعات، إلا أنها لم تحظ بالاعتراف الدولي حتى يومنا هذا.
ميزة الجغرافيا والديمغرافيا
لقد لعبت عوامل الجغرافيا والديمغرافيا دورًا محوريًا في الدفع بفكرة استقلال إقليم أرض الصومال إلى الأمام. وبفضل هذه العوامل تحديدًا، يبدو أن الاعتراف بهذه الجمهورية من قبل المجتمع الدولي بات وشيكًا وقريبًا جدًا.
لقد استطاع الإقليم بفضل تماسكه الاجتماعي أن يمنع انتقال عدوى الحرب الأهلية الصومالية المدمرة إلى أراضيه، ويعزى ذلك بشكل كبير إلى التركيبة الديمغرافية للإقليم، حيث تنتمي غالبية السكان إلى قبيلة إسحاق المتماسكة. وقد أدى هذا التماسك العرقي والاجتماعي إلى تماسك الدولة ووحدتها. وعلى النقيض من ذلك، نجد أن جمهورية الصومال ما زالت تعاني من ويلات الحرب والصراعات القبلية والعرقية، ويشهد على ذلك أن معظم الحلول التي طُرحت لتسوية النزاع في البلاد، كانت تقوم على إشراك الأعراق الكبرى مثل الهوية والدارود والرحوانيين والدر وغيرهم.
وهكذا، أسهمت التركيبة الديمغرافية المتجانسة في إنجاح جهود الدولة في بسط الأمن والسلام في ربوع الوطن، وتحقيق تنمية مستدامة، كما نجحت الدولة أيضًا في اعتماد نظام ديمقراطي راسخ يضمن الانتقال السلس للسلطة، وتداولها بشكل سلمي.
من جانب آخر، لعبت الجغرافيا دورًا حاسمًا في جذب اهتمام القوى الإقليمية والدولية إلى هذا الإقليم غير المعترف به. فإقليم أرض الصومال يتمتع بموقع استراتيجي فريد ومهم على خليج عدن وباب المندب، المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وهو ممر مائي دولي حيوي تعبر من خلاله حوالي 12% من حجم التجارة العالمية، وأكثر من 40% من التبادل التجاري بين قارتي أوروبا وآسيا.
لقد أصبحت هذه المنطقة مسرحًا لصراع دولي كبير، يتجسد في الوجود المكثف للأساطيل البحرية العسكرية الغربية والشرقية التي تتقاطع في هذه المنطقة، بهدف مكافحة القرصنة البحرية المتفاقمة، ومواجهة التحديات الأمنية الأخرى التي تؤثر بشكل مباشر على سلامة التجارة العالمية العابرة عبر البحر الأحمر وقناة السويس في طريقها إلى أوروبا والولايات المتحدة. وتؤكد الأحداث الجارية، مثل التهديدات المتواصلة التي يوجهها الحوثيون لأساطيل الدول الكبرى، على أهمية هذه المنطقة الاستراتيجية.
وعلى الرغم من عدم الاعتراف الدولي الرسمي بالإقليم، إلا أن العديد من الدول تتعامل معه بحكم الأمر الواقع، في قضايا التجارة والاستثمار، لا سيما في مجال الصيد البحري. وكانت إثيوبيا من أوائل الدول التي أقرت التعامل الرسمي مع أرض الصومال، حيث أنشأت مكتبًا تجاريًا في العاصمة هرجيسا، يقوم مقام السفارة. كما كانت موانئ أرض الصومال بمثابة معبر للعديد من السفن والأساطيل التجارية التي تنقل البضائع والمنتجات من وإلى أرض الصومال، دون اعتراض من أي جهة.
شهد الصراع على إقليم أرض الصومال تصعيدًا ملحوظًا في شهر يناير/كانون الثاني من العام الماضي، عندما أعلنت إثيوبيا عن توقيع اتفاقية مع حكومة أرض الصومال، تستأجر بموجبها قطعة أرض في ميناء بربرة لتكون بمثابة ميناء مستقل تستخدمه إثيوبيا وتشرف عليه القوات البحرية الإثيوبية لمدة نصف قرن. وتأتي هذه الخطوة ضمن خطة إثيوبيا المعلنة للحصول على منفذ بحري مباشر على شاطئ البحر الأحمر.
أثار هذا القرار ردود فعل غاضبة من دول المنطقة، وخاصة الصومال ومصر، وأدى إلى تحركات دبلوماسية واسعة النطاق، أسفرت عن تشكيل تحالفات جديدة، عززت من حدة الصراع الإقليمي والدولي حول البحر الأحمر وخليج عدن.
ولكن أهم تداعيات القرار الإثيوبي هو بروز تيار قوي في العديد من الدول، يدعو إلى الاعتراف بجمهورية أرض الصومال دولة مستقلة، على الرغم من التحفظات القانونية التي تحيط بمثل هذا القرار. ويبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تدعم هذا التيار بقوة.
لماذا الاعتراف الأحادي الأميركي؟
لقد دفع الصراع الدولي المتصاعد على البحر الأحمر وخليج عدن مراكز التفكير الأميركية إلى دراسة مختلف السبل لتعزيز الوجود والنفوذ الأميركي في هذا الممر المائي الحيوي. وظهرت آراء عديدة تحذر من مغبة تمكن أي قوة دولية معادية لأميركا من التمركز على شاطئ الإقليم الاستراتيجي، لما في ذلك من تهديد مباشر للمصالح الأميركية في باب المندب والخليج العربي.
تعتبر الدراسة التي أعدتها مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية السابقة جنداي فريزر وآخرون، والتي نشرها مركز هوفر التابع لجامعة ستانفورد المرموقة، واحدة من أهم الكتابات التي تناولت العلاقة بين الولايات المتحدة وأرض الصومال. وقد خلصت هذه الدراسة الهامة، التي تعتبر كاتبها من قادة التيار الأفريقاني في الحزب الجمهوري، إلى دعوة الولايات المتحدة للاعتراف الأحادي باستقلال الإقليم كدولة مستقلة عن الصومال.
وقدمت الدراسة حيثيات موضوعية، مستوحاة من مواقف دبلوماسية سابقة تبنتها أميركا، أهمها قرار الولايات المتحدة في عام 2008 الاعتراف الأحادي باستقلال كوسوفو، على الرغم من عدم وجود إجماع دولي على ذلك. وأشارت الدراسة إلى أن جميع الحيثيات التي ذكرتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس لتبرير الاعتراف الأحادي باستقلال كوسوفو تنطبق تمامًا على إقليم أرض الصومال، وهي: مصلحة الولايات المتحدة، ووجود حكومة تسيطر على حدود الدولة، وضعف احتمال العودة إلى الوضع السابق، وإمكانية قيام نظام ديمقراطي في الدولة الجديدة.
أكدت الدراسة على وجود حكومة مستقرة في أرض الصومال، تسيطر بشكل فعال على الأمن والحدود، وتطبق نظامًا ديمقراطيًا متميزًا مقارنة بدول الجوار. كما أكدت أنه بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على انفصال الإقليم، فإنه لا يوجد أي احتمال للعودة إلى الوضع السابق، وأن يصبح جزءًا من الصومال مرة أخرى.
ركزت الدراسة بشكل أساسي على المصالح الجمة التي ستجنيها أميركا من اعترافها الأحادي بأرض الصومال، ولا سيما فيما يتعلق بتعزيز نفوذ أميركا وحلفائها في خليج عدن وباب المندب، والحفاظ على أمن البحر الأحمر، ومكافحة القرصنة، وضمان سلامة التجارة الدولية، والتصدي لخطر الحوثيين المتزايد، وغير ذلك من التهديدات الجيوستراتيجية في منطقة ذات أهمية اقتصادية وأمنية وسياسية بالغة لأميركا.
قللت الدراسة من شأن ردود الفعل الإقليمية والدولية المحتملة، وخاصة رد فعل الصومال والاتحاد الأفريقي، واقترحت تهدئة الصومال من خلال منحها حوافز مادية كبيرة، ومطالبة الاتحاد الأفريقي بقبول الدولة الجديدة، على غرار قراره السابق بقبول عضوية الجمهورية الصحراوية.
تحديات إستراتيجية
تمثل الدراسة التي كتبتها جنداي فريزر رؤية تيار واسع من أقطاب التيار الأفريقاني في إدارة الرئيس الأميركي السابق، وعلى رأسهم بيتر فام وبروس قيلي، وعضو الكونغرس الجمهوري سكوت بيري، الذي قدم مشروع قانون يطالب حكومة الولايات المتحدة بالاعتراف الأحادي باستقلال الإقليم. ولذلك، يبدو أن مسألة الاعتراف الأحادي بأرض الصومال ستكون مسألة وقت لا أكثر، ريثما تحصل الإدارة الأميركية الجديدة على ما تصبو إليه من حكومة الإقليم.
ومما يدعو أميركا إلى التعجيل بالاعتراف الأحادي باستقلال إقليم أرض الصومال، هو قرار الحكومة البريطانية بتسليم أرخبيل جزر شاغوس إلى موريشيوس، الأمر الذي من شأنه أن يحد من فاعلية استخدام أميركا لقاعدة دييغو غارسيا في عرض المحيط الهندي. كما أن الوجود الأميركي الدائم في هذا الممر المائي الحيوي يضمن لأميركا تأمين طريق تجاري آخر في مواجهة مبادرة الحزام والطريق التي تقودها الصين. وفي كلتا الحالتين، فإن الإقليم سيظل يتمتع بأهمية استراتيجية عسكرية وتجارية كبيرة لأميركا وحلفائها، تبرر اتخاذ قرار الاعتراف الأحادي.
بالمقابل، فإن قرار الاعتراف الأحادي، في حال تنفيذه، سيؤدي إلى تأجيج الصراع الدولي على البحر الأحمر، وتحويل هذه المنطقة إلى ساحة للمنافسة الشديدة بين القوى المختلفة الطامعة في خيرات المنطقة. كما أن هذا القرار قد يؤدي إلى تصعيد حركة المقاومة الوطنية في الصومال ضد هذا التدخل الأجنبي غير المرغوب فيه.
وإذا وضعنا في الاعتبار توجهات الإدارة الأميركية الجديدة، التي تتطلع إلى ضم كندا وغرينلاند وقناة بنما وتهجير سكان غزة، فإن ذلك يعني نهاية النظام العالمي القديم القائم على السيادة وقدسية الحدود، وظهور عالم جديد أقرب إلى قانون الغاب، يعتمد على القوة والقهر. وفي ظل هذه الظروف، لن يكون هناك مكان للضعفاء، ولن يكون العالم مكانًا آمنًا على الإطلاق.